
في مثل هذا اليوم من عام 2011، وبينما كانت تجلّيات الحراك الجماهيريّ المصريّ تتوالى في الظهور تباعًا بأحلى صورها من ميدان التحرير في وسط القاهرة لليوم التاسع على التوالي، تحت مظلَّة الشعار القائل بأنّ “الشعب يريد تغيير النظام” في إطار ما اتُّفق على تسميته بـ “ثورة 25 يناير”، وتيمُّنًا بالتجربة التونسيّة التي كانت قد أفضت وقتذاك إلى الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي في إطار ما اتُّفق على تسميته بـ “انتفاضة البوعزيزي”، أذكر أنّ وزيرة الخارجيّة الأميركيّة هيلاري كلينتون بادرت إلى إطلاق تصريحٍ ناريٍّ في غاية الغرابة والخطورة من واشنطن، وذلك عندما قالت بالفم الملآن “إنّ الولايات المتّحدة مستعدّةٌ للجلوس على مائدةٍ واحدةٍ، حتّى مع الإخوان المسلمين، شريطة أن يتنحّى الرئيس حسني مبارك عن الحكم الآن، والآن تعني الآن”، على حدِّ تعبيرها، وهو التصريح الذي سرعان ما حفَّزني، أثناء استضافتي في اليوم التالي خلال البرنامج الإخباريّ الصباحيّ داخل استديوهات “قناة الآن” في مدينة دبي للإعلام، على قول ما حرفيَّته: “أخشى ما أخشاه أنّ ما جرى في تونس، وما يجري الآن على الساحة المصريّة، هو نموذجٌ لسيناريوهاتٍ وتجاربَ يمكن أن تتكرَّر في أماكنَ أخرى من الوطن العربيّ.. وأخشى ما أخشاه، في هذه الحالة، هو أن يتحوَّل الشعب العربيّ، في مجمله، إلى فئرانِ تجاربٍ في هذا المختبَر الأميركيّ”.
وعلى رغم أنّ عدوى “ربيع العرب” لم تكن قد انتقلت بعد إلى ليبيا واليمن وسوريا، ومع الأخذ في الاعتبار أنّ منسوب التفاؤل في قدرة الحراك الجماهيريّ على إحداث التغيير المطلوب كان لا يزال مرتفعًا جدًّا، ولدرجةِ أنّ الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصر الله، على سبيل المثال وليس الحصر، بادر بعد يومين فقط، وتحديدًا أثناء إلقائه خطابه الشهير في “مهرجان النصرة لثورة الشعب المصريّ” بتاريخ السابع من شهر شباط عام 2011، إلى وصف ما يجري بأنّه “مفصلٌ من أهمّ مفاصل تاريخ هذه الأمّة والمنطقة”، بحيث يستعيد المصريّون “في الميادين والساحات كرامة الإنسان العربيّ التي أذلَّها وأهانها بعض حكّامه خلال عقودٍ من الزمن بالاستسلام والهزيمة”، على حدِّ تعبيره، فإنّ ما حفَّزني على الإعراب عن موقفي التشاؤميّ المسبَق في سياق تعليقي على تصريح الوزيرة كلينتون الآنف الذكر، يتمثَّل في أنّ مجرَّد استنباط المعنى من خلال الإشارة إلى الإخوان المسلمين على وجه الخصوص، حمل في طيّاته من الشبهات ما يكفي للدلالة على أنّ الولايات المتّحدة استهدفت من وراء تشجيع قادة هذا التنظيم وعناصره على ركوب موجة الحراك الجماهيريّ ضدّ نظام الرئيس مبارك صبَّ المزيد من لوازم الاشتعال في الشارع، بما يضمن لها توفير أفضل الأجواء للمضيّ قدُمًا في سياسة “الفوضى الخلّاقة” التي تنتهجها، ولا سيّما إذا وضعنا في الحسبان البديهيّة القائلة بأنّ الإخوان من جهةٍ، وشباب “ثورة 25 يناير” من جهةٍ أخرى، كانا بمثابة نقيضيْن لا يمكن أن يلتقيا بأيِّ شكلٍ من الأشكال.
الرؤية الروسيّة.. والهيكل الثالث
في هذا السياق، وبالنظر إلى الفرص الوفيرة التي أتاحها لي تواصلي الدائم مع معاهدَ ومؤسّساتٍ أكاديميّةٍ وبحثيّةٍ روسيّةٍ للاطّلاع على ما يدور في ذهن دوائر صنع القرار في موسكو من هواجسَ وأفكارٍ لدى وضع الأطُر العامّة للسياسات الخارجيّة، لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ الفرضيّة المتعلِّقة بتورُّط الأميركيّين في التخطيط لإدخال العرب في أتون “ربيع العرب” كانت قد طُرحت على بساط البحث، للمرّة الأولى، قبل بداية هذا “الربيع” المشؤوم بأسابيعَ عدّةٍ، وذلك على خلفيّة قيام الملياردير اليهوديّ الأميركيّ (المجريّ الأصل) جورج سوروس بمنح منظّمة “هيومان رايتس ووتش” هِبةً ماليّةً بقيمة مئةِ مليونِ دولارٍ في شهر تشرين الأوّل عام 2010، مقابل التركيز في تقاريرها على مسألتيْ الحرّيّات وانتهاكات حقوق الإنسان في كلٍّ من تونس ومصر، تمهيدًا لتشكيل رأيٍ عامٍّ عربيٍّ يرفع ويتبنّى الشعار القائل بأنّ “الشعب يريد تغيير النظام”، وبالتالي، لإغراق المنطقة العربيّة بأسرها في فوضى عارمةٍ تستمرّ لمدّة عشرين عامًا على الأقلّ، بما يضمن إنهاكها، ومن ثمّ تقسيمها إلى دويلاتٍ طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ وإثنيّةٍ وعرقيّةٍ، وفقًا لما تنصّ عليه خطّة “خارطة حدود الدم” التي يرفع لواءها الجنرال المتقاعد في الجيش الأميركيّ عن المحافظين الجدد رالف بيترز، وهي الخطّة التي كان الروس سبّاقين في التحذير من عواقبها الوخيمة، ولا سيّما بعدما اتَّضح لهم، بما لا يترك أيَّ مجالٍ للشكّ، أنّ الهدف الرئيسيّ من ورائها يتركَّز على استبدالِ أنظمةٍ عربيّةٍ راهنةٍ بأخرى يمكن أن تساوِم على مستقبل القدس الشرقيّة باعتبارها عاصمةً لدولة فلسطين، تمامًا مثلما يمكن أن تغضّ النظر عن استمرار الحفريّات الإسرائيليّة تحت المسجد الأقصى، ومن ثمّ عن بناء “الهيكل الثالث” فوق أنقاضه، الأمر الذي كان السيّد حسن نصر الله قد أشار إليه، للمرّة الأولى، في معرِض ردِّ فعله الشهر الماضي على قرار الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب حول الاعتراف بالقدس كعاصمةٍ لـ “دولة إسرائيل”، علمًا أنّ المسؤولين الروس والمقرَّبين منهم، وأنا من بينهم، كانوا قد حذَّروا من خطورة تداعياته قبل قرابةَ السبعةِ أعوامٍ من الزمان بالتمام والكمال.
البيت في القصيد
هذا الكلام، وإنْ كان لا ينطوي على أيِّ نيَّةٍ في استعراض عضلاتٍ أو مهاراتٍ مهنيَّةٍ في مجال الرصد والمتابَعة والتحليل، ولكنّ الغرض المرجوّ منه، فوق كلّ الاعتبارات المهنيّة، يتمثَّل في وجوب الإضاءة على أنّ نموذج السيناريوهات الموضوعة قيْد الاستنساخ في الوطن العربيّ، بدءًا من تونس، مرورًا بمصر وليبيا واليمن وسوريا، أوشك على أن يتكرَّر هذه المرّة في لبنان، وبمنسوبِ خطورةٍ لم يسبق لارتفاعِه مثيلٌ منذ زمان الحرب الأهليّة عام 1975، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ هشاشة “الصيغة التوافقيّة” في البلد، وفقًا لما دلَّت إليه مؤشِّرات الشرقطة على خطّ التوتُّر العالي في الآونة الأخيرة بين مكوِّنات هذه الصيغة، سواءٌ على خلفيّة الانقسام في الرأي بين الرابية والضاحية حول فيلم “ذا بوست” للمخرج الأميركيّ الشهير ستيفن سبيلبرغ أم على خلفيّة الانقسام المماثِل الذي شهدناه ما بين أنصار الرابية وما بين أنصار عين التينة حول معنى “البلطجة” في تصريحات وزير الخارجيّة جبران باسيل، باتت تستوجب اليوم، وأكثر من أيِّ وقتٍ مضى، إعادة تصويب إبرة البوصلة اللبنانيّة نحو قصر بعبدا، قبل أيِّ اتّجاهٍ آخَر، ليس بالضرورة لأنّ تجربة الشغور الرئاسيّ علَّمتنا أنّ البلد كاد يغرَق أثناءها في خضمّ تداعيات ربيعٍ عربيٍّ جديدٍ على إيقاعِ غوغائيّةِ هتافاتِ “الشعب يريد إسقاط النظام” التي ردَّدها الناشطون في الحراك المدنيّ قبل قرابةَ العاميْن ضدَّ حكومة الرئيس تمّام سلام وحسب، وإنّما لأنّ حجم التهديدات الإسرائيليّة الأخيرة الناجمة عن تأجُّج نار الصراع على مصادر الثروة الغازيّة والنفطيّة في المناطق الحدوديّة الفاصلة ما بين لبنان وما بين فلسطين التاريخيّة، بات يفرض على اللبنانيّين جميعًا، التوحُّد معًا في مواجهة كافّة أشكال المخاطِر المحدِقة بهم جرّاء ما قد ينجم من تداعياتٍ عن ملفّ النفط والغاز العظيم.
وحسبي أن أذكِّر هنا بما جاء على لسان الرئيس السوريّ بشّار الأسد عندما قال العام الماضي إنّ سبب الأزمة في بلاده يعود إلى رفضها الموافقة على مشروعٍ تقدَّمت به الدوحة لنقل الغاز القطريّ، عبر أراضيها، إلى تركيا، ومن ثمّ إلى دول الاتّحاد الأوروبيّ، أملًا في منافسة الغاز الروسيّ هناك.. وحسبيّ أنّ البيت في القصيد هنا يتمثَّل في وجوب التأكيد على ما بات في حُكم المؤكَّد عن أنّ عمليّة رسم خرائط شبكات أنابيب الذهب الأزرق في “الشرق الأوسط الجديد” لطالما استوجبت على مرِّ الأعوام السبعة الماضية استنساخَ “فئران تجارب” هنا وهناك على طول الامتداد الجغرافيّ العربيّ من المحيط إلى الخليج في إطار ما يمكن أن يُسمَّى مجازًا بـ “الفيلم الأميركيّ الطويل”، عسى أن يتمكَّن اللبنانيّون موحَّدين من مواجهة هذا الاستحقاق الكبير.. والخير دائمًا من وراء القصد.
جمال دملج- خاص “لبنان 24”
from تحقيقات – ملفات – wakalanews.com http://ift.tt/2BV3sTv
via IFTTT

0 comments: